جامعة عبد المالك السعدي كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان |
شعبة اللغة الإسبانية وآدابها |
السنة الثانية من السلك الثاني |
السنة الجامعية : 2000 - 2001 |
رواية المعلم علي لعبد الكريم غلاب
نريد بهذا العنوان تأطير نص الرواية المذكورة فيه، حتى يتسنى لنا تكوين صورة ولو متواضعة عن الموضوع الذي سيشتغل عليه تحليلنا. ونقصد بالتأطير في هذا الصدد، التذكير بالسياق الزمني والفكري والطابع المادي لنصنا، غير أننا لن ننهج لتحقيق ذلك، الأسلوب التقليدي والمتعارف عليه في تناول مثل هذا الأمر، نظرا لقصوره في هذا المضمار لذلك سنعمل على استحضار مجموعة من المعلومات الأساسية، التي تشتغل بشكل أو بآخر، بوصفها تعليمات توجه التأويل كما تصوره
´´بيرس´´ Pierce´´. وانطلاقا من ذلك تتحول المعلومات التي سوت نشير إليها، إلى مؤشر يلعب بحق دور الوسيط بين الوضع الانطولوجي للنص، ووضعا المفهومي على سعيد التحليل. وهكذا سوف نتحدث على التوالي عن المبدع، ليس بوصفه شخصا ذا كيان فيزيقي، ولا من حيث كونه بوتقة تتراكم فيها محطات بيوغرافية كرونولوجية متدافعة، ولكن بوصفه: نظام كتابة، يقوم على تراكم إبداعي، يوجه قراءته بشكل من الأشكال، وعلى خصائص أسلوبية تكاد تتكرر في كل النصوص، لتصبح ملمحا يشير إلى الكاتب ولا ينفك عن أى ذكر أو تناول له. كما سنتحدث كذلك عن زمن الكتابة باعتباره سياقا حافلا بمجموعة من الأحداث الاجتماعية والسياسية، التي تلعب دور. الخلفية التاوية وراء التكون الإبداعي للنص، ووراء مختلف قراءاته المحتملة. كما ما سنتطرق كذلك إلى الحجم المادي للكتاب والى إخراجه، نظرا لما يكتسيه هذا الأمر من أهمية في إدراك طبيعة التوزيع الغرافي للنص في علاقته بالكتابة.1- الروائي
عندما نذكر اسم عبد ا لكريم غلاب مؤلف رواية المعلم علي، فإننا لا نستحضر مجرد مبدع يهتم بإنتاج القصة والرواية المغربيتين فقط، وإنما نستحضر إلى جانب ذلك سيرورة معقدة في الكتابة في بعدها العام. ذلك أن هذا الكاتب لا يؤسس إبداعا منفصلا عن انشغاله السياسي. والفكري والصحافي، حيث تتضافر هذه اللحظات المتعددة دفعة واحدة، وعلى نحو جدلي لتؤسس صورته بوصفه روائيا مغربيا. فإذا كان يحرص أثناء إنتاج الرواية على استمداد موضوعاته من بنيات المجتمع المختلفة، سواء أكانت مصغرة أو مكبرة، فإنه يأبى إلا أن يشكلها انطلاقامن خلفية الأسئلة التي تراوده على صعيد الممارسة السياسية والصحافية. فبحكم انتمائه إلى حزب الاستقلال، وبحكم إدارته لجريدة
´´العلم´´-لسان حال هذا الحزب - 1دة من الزمن ليست بالهينة، يكون مضطرا بشكل واع أو غير واع إلى إيجاد امتدادات لهذا الانتماء المزدوج داخل نصوصه الروائية، حيث تشكل هاته الامتدادات بوصفها أسئلة مفهومية مجردة عبر تشخيص روائي يسمح لها بالبروز والظهور. كما أن لتشبع عبد ا لكريم غلاب بالثقافة المشرقية دورا جوهريا في إبداعه للرواية وصناعتها. ومن ثمة نحصل على مبدإ أولي في توصيف نظام الكتابة عنده، سواء على صعيد الموضوعات أو الأسلوب الفني، الذي نسميه:أ- مبدأ المحافظة المرنة :
ويتجلى هذا المبدأ في الحرص على إبراز المؤسسة الاجتماعية في أبعادها التكوينة المتعددة. ( الأسرة - الحي - المدينة ... الخ) انطلاقا من العلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر، ومساءلة الأنا الاجتماعية فيمايخصصها ويميزها عن الآخر الغيري، الأمر الذي يجعله كاتبا لا ينحو بتشخيصه للمؤسسة الاجتماعية إلى تمجيد المغايرة التحديثية، دون استحتضار الحدود التي تجعل شخصياته الروائية، ذواتا متسمة بطهرانية وأخلاقية بارزتين تجعلانها مبتعدة عن الانغماس اللا مشروط في عالم اللذة. وعلى صعيد أخر تبرز تلك المحافظة المرنة في الإخلاص للأدب منحيث كونه بنية فنية تتسم بالرقي الذي يستمد أصوله من مقومات الأسلوب التحديثي الذي أرسى دعائمه رواد النهضة الأدبية في أوائل هذا القرن، حيث نجد كاتبنا يتشبث بلغة فصيحة لا يكاد يمازجها ما ايغايرها من لهجات، إلا إذا ألحت الضرورة الفنية عليه بذلك. هذا جانب احتفائه بالأسلوب الرفيع في الكتابة، بما في ذلك انتقاء المعجم والعبارات المسكوكة وبناء الجملة السرد ية. كما نلمس مبدأ المحافطة المرنأ عند عبد الكرب غلاب في عدم جنوحه نحو تبني الأشكال السردية. القائمة على التداخل والالتباس والتجريب. ويلتقي هذا المبدأ في الكتابة بالموقف الوسط الذي يميز تصوره السياسي في النظر إلى المجتمع وفي أساليب تطويره وتقدمه، حيث تبرز مقولة التعادلية الاجتماعية التي يدافع عنها حزب الاستقلال، واضحة وجلية.
ب-مبدأ التكون:
ونقصد به شغف عبد الكريم غلاب بتتبع اللحظات المكونة للحياة، سواء في بعدها الفردي أو والاجتماعي، حيث يتعقبها بالتدرج صعودا من بدايات الفرد الأولى وهو يتخبط في العماء إلى النهايات، حيث يسجن نفسه في صورة محددة تجعله يرى العالم برمته من خلالها، ويتعامل معه انطلاقا منها. وهذا المنحى في النظر إلى الشخصي الروائية يقترب من الأسلوب الواقعي الذي ساد في أوروبا خلال ا لقرنين: الثامن عشر والتاسع عشر. وبذلك يخالف غلاب الكثير من الروائيين، المغاربة المعاصرين، حيث لا نجده يتعامل مع الشخصية بعيدا عن بسط تكونها البيوغرافي ولا يقذف بشخصيته داخل العالم مكتسية لكل خصائصها دفعة واحدة. فلا عجب اذا كانت-رواياته تنبني على مقاطع أو فصول تتوالى في تناغم تام مع هذا ا لبعد ا لتكويني، إذ يدل هذا التقطيع الذي ينهجه على تراكم اللحظات التكوين وتطورها وهو شيء يوازي تدرج الشخصية في مراتب الوعي والكينونة. ويلتقي هذا المبدأ مع السابق في كونهما يستندان إلى تصور ما للتاريخ وللزمن يقوم على، التتابع وليس على القطيعة، ذلك أن الماضي (أكان تاريخا أو تراثا أو ثقافة) لا يمكن إلغاؤه، بل هو حاضر فينا يمدنا بوهج ما، ويشكل حضورنا داخل الزمن الآني. ويجد هذا المبدأ تبريرا له في إشكالية الأصالة والمعاصرة التي أرقت الفكر العربي على تعدد مشاربه واختلاف أهدافه خلال هذا القرن.
ج-مبدأ الواقعية:
تستمد جل روايات عبد الكريم. طبيعتها من الأسلوب الواقعي في كتابة الرواية، مخلصة بذلك للتقليد الروائي لذي طغى في القرن التاسع عشر في أوروبا وفي أواسط القرن العشرين في العالم.العربي مع ما يستتبع ذلك من محافظة على البعد الخطي للسرد. ومن احتفاء بالحكاية ومن تصوير دقيق للشخصيات والأمكنة، إلى جانب ما تخلل ذلك من أسلوب تقريري واستطرادات وسخرية. فعبد الكريم غلاب تمام الحرص على تقديم عالمه من خلال تشخيص أمين يتغير إيهام القارئ بصدق المحكي وبحدوثه وتحققاه، مع الحرص على التشويق. ومثل هذا الأسلوب في الكتابة يرتبط بهدف جلي يتمثل في مبدإ الوضوح القائم على تبليغ الدلالة بأدنى تكلفة أسلوبية. ومثل هذا التصور الواقعى في الكتابة يتماشى على نحو تام مع مبدإ التكون ومبدإ المحافظة اللذين أشرنا إليهما سابقا. ومن ثمة تصبح الرواية ذات طابع وظيفي على صعيد القراءة، إذ لا تقوم بتمتيع القارئ فقه، وإنما تتجاوز ذلك، لتدفع به إلى مساءلة مختلف الاطروحات التي يتضمنها عبد الكريم غلاب في رواياته.
2-زمن الكتابة
إن رواية المعلم علي هي ثالث رواية يصدرها الكاتب بعدما أصدر في 1925 روايته: ´سبعة أبواب´´، وبعدما وضع بعد ذلك بسنة واحدة روايته الثانية: ´´دفنا الماضي´´. وتقع روايتنا زمانا قبل ظهور رواياته: "ويزحف الليل "التي أصدرها خلال سنة 1984، وروايته "وعاد الزورق إلى النبع" التي عرفت النور سنة 1987، وروايته الأخيرة: ``شروخ في المرايا`` التي طلع بها على قرائه خلال سنة 1994. فإذا نحن نظرنا إليها من الناحية الزمنية، فسنجدها تتوسط إنتاجه الروائي. ويؤشر التموقع الزمني الوسط لهذه الرواية على دلالة هامة على صعيد التجربة الكتابية لصاحبها، إذ تعتبر نصا ممتدات اللنصين السابقين على صعيد الموضوع وتطورا ملحوظا في أسلوب الكتابة عنده. أما إذا راجعنا زمن ظهور روايتنا، فإنه يجب علينا أن نميز بين صدورها بين دفتي كتاب واحد سنة 1971، و بين نشرها مسلسلة بجريدة العلم تحت عنوان: "دنيا المتواضعين " خلال ربيع 1968. ولهذا التمييز أهمية خاصة على صعيد العنوان، وعلى السياق العام لكتابتها. فعنوانها الأول يشير إلى الجمع لا إلى المفرد، كما أنا يشير على مستوى الدلالة إلى العالم الأسفل في مقابل العالم الأعلى. ولهذه الثنائية دلالتها في توصيف المعنى الروائى حيث يتم ا لتركيز على البعد الأخلاقي للعالم الأسفل من خلال التواضع. أما إذا نظرنا إلى السياق العام لزمن الكتابة، فإننا نجد أن هذه لرواية قد كتبت في أواخر الستينات مما يعني أنها جاءت في أواخر عقد من الزمن اتصف بحدة الصراعات بين المكونات السياسية في المجتمع المغربي، وخاصة بين تلك المكونات التي كانت تنضوى تحت الحركة الوطنية التي من المعروف أنها كانت قد انقسمت على نفسها لأسباب متعددة لا سبيل إلى ذكرها هنا. ولنكتفي بالإشارة إلى السمات الكبرى لهذا الانقسام التي تتمثل في اختلاف المواقف الإيديولوجية لهذه المكونات السياسية، حيث يكمن تحليل هذا الاختلاف في التوجه الليبرالي التغريبي (المكونات السياسية الرسمية) وفي التوجه البورجوازي الوطني (حزب ا لاستقلال ) وفي ا لتوجه الاجتماعي (حزب اتحاد الوطني للقوات الشعببية ). كل هاته المكونات في اختلافها الإيديولوجى كانت تتصارع سياسيا من أجل قيادة المجتمع وطرح البدائل لبناء الدولة والمستقبل السياسي للبلاد. ولقد كانت تحتاج هذه المكونات في هذا الصراع إلى تبرير اختياراتها السياسية، والعمل على إضفاء المشروعية والشرعية عليها. ولم يكن أمامها للوصول إلى هذا المطمح سوى الرجوع إلى الماضي السياسي للمقاومة وللحركة الوطنيتين وتبنيه. لذلك اختلفت أشكال هذا التبني باختلاف الرؤى وأساليب العمل لكل حزب على حدة. ولقد تم نقل هذا الصراع السياسي إلى حقل الأدب بطرق تختلف من فئة ثقافية إلى أخرى، بحسب ارتباطها بالمكونات السياسية المذكورة أنفا. وهكذا وجدنا رواية "المعلم علي" تصدر في زمن استقرت فيه تلك الرؤى المتصارعة، وتمايزت فيما بينها، لذلك عملت - بوصفها نصا إبداعيا- على التعبير على هذه المرحلة، متجاوزة تصويرها وتشخيصها، إلى إثبات شرعية المكون السياسي البرجوازي الوطني، بوصفه الوريث الشرعي للحركة الوطنية، وذلك بتشخيص النضال السياسي عبر الإستعمار من خلال إبراز حزب الاستقلال بوصفه العنصر الفعال في تحرير ا لوطن وطرد المستعمرين ينضاف إلى ذلك، أن زمن الكتابة الذي ظهرت في سياقه روايتنا، كان قد عرف تحولا ثقافيا ملحوظا وموازيا للتحول السياسي الحاصل في تاريخ المغرب، والمتمثل في استقلاله، ولقد تمثل هذا التحول الثقافي في ظهور جيل جديد من المبدعين والأدباء حمل على عاتقه مهام ارتياد أفاق جديدة في الإبداع : حيث لم يعد الشعر يحتل وحده المجال الأرحب للتعبير عن المجتمع، بل ظهرت إلى جانبه أشكال جديدة تنافسه الحضور داخل الساحة الثقافية. ومن ضمن هذه الأشكال، احتلت الرواية موقعا بارزا ومتميزا داخلها خلال هذه الفترة. فكان لا بد لرواية المعلم علي، نظرا لظهورها في م هذا التحول، من أن تحمل خصوصيات الإرهاصات والبدايات الأولى لظهور الفن الروائي بالمغرب، ومن ثمة يمكن أن تعد رواية مؤسسة لهذا النوع الأدبي بهذا البلد، إلى جانب الروايات المغربية الاخرى. فلا عجب إذا إن حملت هذه الرواية في طياتها أسئلة البدايات فيما يتعلق بالنمذجة بصفة خاصة، ونقصد بذلك الشكل النموذجى الذي بمقدو أن يحقق القدرة على تخصيص الرواية المغربية وإكسابها ملامحها المميزة ضمن جدلية المثاقفة، سواء في الاتباه الأفقي مع الشرق العربي، أو في اتجاه العمودي مع العالم الغربي. لذلك لم يكن الهم المساوق لإنتاج رواية المعلم علي، ماثلا في تجاوز ذلك الشرق أو هذا الغرب، بقدر ما كان ماثلا في إرساء اللبنات الأولى للرواية في المغرب سواء على صعيد الإنتاج أو على صعيد التلقي. ولهذا لم تكن هذه الرواية كذلك، سوى نوع من التنويع على ما أنتجه العالمان المذكوران سابقا. بالإضافة إلى ذلك، فلقد اهتم هذا العمل الأدبي بموضوع لم يكن ليكتسي طابع الراهنية، ولكنه كان نوعا من الترهين لأسئلة الحاضر بصدد تاريخ لم يمتلك بعد على نحو تام، أي بصدد تاريخ أنتجته فعاليات متعددة، غير أنها اختلفت في تصريفه بالنسبة للحاضر، فالتجأة إلى إعادة صياغته وفق منضورها الراهن لتسيطر عليه وتحتويه وتجعله وقفا عليها دون غيرها.
3- الحجم :
تتكون رواية المعلم علي من 414 صفحة، ومن ثلاثين مقطعا من الحجم المتوسط. كما أنها لا تتوفر على عناوين فرعية داخلية، حيث تكتفي بالإشارة إلى مقاطعها بواسطة أرقام متوالية. ويدل هذا الحجم الشاسع على طول النفس الروائي عند عبد الكريم غلاب، وعلى أهمية الموضوع الذي اهتم بمعالجته روائيا. أما مقاطع الرواية، فإنها تتسم بالقصر، ولهذا الأمرأهميته بالنسبة لقارئها، إذ يوفر له إمكانية توزيع لحظات القيام بقراءتها وتنظيمها حسب ظروفه وإمكانياته. وعلاوة على ذلك، فإن أسلوب المقاطع الذي اعتمد في تقسيم الرواية وتوزيعها، ينسجم إلى حد بعيد مع مبدإ التكون الذي أشرنا إليه سابق، حيث يتم تعقب التكون التدريجي للوعي عند ا لشخصية الرئيسية في الرواية.
2-التقسيم السردي :
يمكن أن نعالج التقسيم السردي لنص رواية المعلم علي حسب اتجاهين مختلفين. أولهما: أن نأخذ بعين الاعتبار مفهوم الاتساق النصي) Cohesion textuelleوهو مفهوم يرد عند غريماس تحت تسمية الانسجام (Coherence، وذلك بالاعتماد على ا لإحالة بالعائد والضمير، ثانيهما : أ ن نعتبر طبيعة تشكل الرغبة وتحولها بوصفها عنصرا حاسما في تكوين البرامج السردية، وما تتضمنه من مجار سردية مختلفة Parcours narratifs.
فإذا أخذنا بعين الاعتبار الإحالة الضميرية التي تكسب ا لنص السردي درجة محددة من الاتساق، فإننا نكتشف أن النص ينقسم سرديا -خارج التقسيم الغرافي المتمظهر عبر الارقام - والذي يتوازى مع وحدات سردية نصية قائمة على الحدث - إلى قسمين هامين: قسم يهيمن فيه الضمير الغائب الفردي ´´هو´´، والذي يضطلع الممثل:´´علي´´ بالإشارة إليه. وقسم آخر يهيمن فيه الضمير الغائب الجماعي ´´هم ´´، والذي يضطلع بالتعبيرعنه نصيا الممثلون: -الحياني- عبد العزيز -علي- الجامعي. غير أن هذا لا يعني أن النص يشغل مفهوم ضمير الجماعة على نحو جامع ومتعد ينسحب على الفعل، ويجعله كذلك فعلا جماعيا، وإنما يجعل الذات تكتسب حضورها انطلاقا من حضور ذوات أخرى تشاركها في الفعل، الشيء الذي ينسحب أثره على تكوين مفهوم الذات داخل الرواية، حيث نكون أمام ثنائية أساسية تمظهر التقسيم النصي وهي: الفردي المنعزل، والجماعي الملتحم. وما يبررذلك نصيا هو حضور اللاتواصل في القسم الاول بين ا لذات وباقي العوامل الاخرى: -قدور- الأم - التدلاوي - ا لخ .. وحضورالتواصل في القسم الثاني بين الذات، وبقية العوامل.
أما إذا أخذنا بعين الاعتبار تشكل الرغبة، فإن القسمين الرئيسيين المحددين بواسطة الإحالة الضميرية يصبحان بدورهما قابلين للتوزع إلى أقسام سفلى بحسب تحول الرغبة في علاقتها بالموضوع. ذلك أن رواية المعلم علي لا تقوم على برنامج سردي بسيط تتعرف فيه الرغبة على موضوعها دون التباس، بل هي رواية تعرف نوعا من التعقيد على مستوى صياغة البرا مج السردية، وما تقتضيه من مجار سردية، وهذا التعقيد ناتجعن الاستبدال الذي يسم علاقة الذات بموضوعها حيث يمكن افتراض تصور أولي لهذه العلاقة يقوم على ثنائية : الإجبار والاختيار، ذلك أن القسم الأول يقوم على رغبة لا تنبع من الذات بل تنبع من الآخر كواجب مفروض على الذات فيما يخص ا لكينونة:
وبذلك نكون أمام عدم الرغبة في الكينونة التي تفضي إلى كون الفعل يتم في علاقته بالرغبة في مدار الضرورة التي تفضي مباشرة إلى الاذعان والخضوع لرغبة مفارقة آمرة هي رغبة الأم.
أما فيما يخص القسم الثاني، فإننا نجد الرغبة تتجسد على مستوى محور الاختيار لأنها تنبع من الذات لا من الآخر، وبالتالي نكون أمام الرغبة في الكينونة التي تفضي إلى كون الفعل يتم في مدار الامكانية التي تؤدي إلى الحرية في اختيار موضوع الرغبة، والاتجاه إلى تجسيدها. إن النص السردي يبدو أكثر تعقيدا على مستوى صياغة البرامج في القسم الذي يقوم على الإجبار نظرا للإخفاق الذي يسم تجسد الرغبة في مسارات متعددة: بحيث نكون أمام استبدال مستمر في المهام التي تقوم بها الذات لجسيد الرغبة الآمرة. وعلى العكس من ذلك يتقلص ذلك التعقيد في القسم الثاني باتجاه السرد نحو بلورة اتجاه احادي متماسكم يصبح معه الفعل قابلا لاستهداف غاية واضحة وبينة تمكن من ظهو الحدين اللازمين لكل نص سردي. وهما الإبتداء والانتهاء، في علاقتهما بالنية والتنفيذ.
إن كل برنامج سردي لا بد أن يقوم على مقصدية محددة. أو ما عنه غريماس بالرغبة في موضوع محدد. ولا شك أن المقصدية التي تؤسس البرنامج السردي المركب في رواية المعلم علي هي تحصيل كينونة: "المعلم" إن هاته المقصدية يمكن القبض عليها من خلال التمظهرالنصي عبر ملفوظات لسانية تعود على الممثل:´´علي´´... لو كنت... لو كنت معلما لبعته منذ مدة لاشتري حمارا نظيفا قويا يحمل بدل خنشة الدقيق خنشتين... ولكني لست معلما... متى أكون؟2 كم يمكن القبض عليها من خلال النص الموازي Paratexte الذي يجسده العنوان:
´´المعلم علي´´، حيث تضطلع لفظة المعلم-التي تشكل الصدارة في العنوان بالتعبير عن محمولية بالنسبة للاسم تتخذ صفة التحديد والتعريف، وبالتالي تحديد الهوية والكينونة. كما أن هذه المقصدية يتم إبرازها غرافيا على مستوى العنوان حسب تنائية الارتفاع والانخفاض. إن ا لعين اتصطدم لأول وهلة، عندما تتفرس الغلاف، بتلك الخطوط ا لعمودية، البارزة للحرفين:´´الألف´´ و´´اللام´´ للفظة المعلم في مقابل انخفاظ الخط لعمودي لحرف:´´اللام´´ في لفظة الاسم´´علي´´. وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على صدارة التحديد بوصفه كينونة مبتغاة ومستهدفة بواسطة الكاتب من جهة، وبواسطة الممثل ´´علي´´ من جهة أخرى.إن هذه المقصدية المحللة على الصعيد الغرافي للعنوان، من خلال ثنائية الانخفاض والارتفاع، تبدو مثيرة لما لها من أهمية في علاقتها بالبرنامج السردي للرواية، ذلك أننا إذا ساءلنا العالم الموسوعي3 للمجتمع الذي تتخده الرواية مادة لها، بصدد الإمكانيات المتوقعة من وراء تشغيل لفظة المعلم، فإننا نحصل على ما يلي:
أ- التراتب في قيمة الكينونة المهنية في لفظة "المعلم"، تختزل ضمنيا ما يضادها تراتبيا، أي لفظة:´´المتعلم´´، وهو تراتب عمودي ايضا. فلتحقيقه لا بد من المرور بمهارات محددة على صعيد المهنة الواحدة. وهكذا يرد الانخفاض والارتفاع أيضا داخل ا لفضاء المهني.
ب- التراتب في قيمة الكينونة الاجتماعية، حيت يعتبر المعلم مركزا اجتماعيا يتصف داخل المجتمع المغربي بالسمو بالقياس إلى مواقع اجتماعية أخرى. ومن ثمة فإن التراتب الاجتماعي وارد كتوقع داخل العالم الموسوعي للفظة المعلم، وهكذا تكون الثنائية الدلالية : الارتفاع والإنخفاض واردة أيضا في التصنيف القيمي للكينونة الاجتماعية.
ونخلص من هذا التحليل إلى كون المقصدية متجهة في الرواية نحو ما هو مهني واجتماعي في نفس الآن. وبالتالي تصبح العلاقة بين الذات والموضوع، أو بين الذات وبقية العوامل، محكومة بطبيعة هذه المقصدية، بل إن التحليل السردي لرواية المعلم علي، والذي لا يأخذ بعين الاعتبار هذه المقصدية لا يكون تحليلا صائبا، ذلك أنها تعد مفتاحا أساسيا لبناء العالم الدلالي للرواية ولبناء بنيتها السردية في مختلف مظاهرها.
مدخل : المقصدية والبرمجة السردية
إن المقصدية التي حددناها في لفظة ´´المعلم´´ بصفتها رغبة تؤشر على طموح ما، تثير مشاكل على صعيد ربطها بالبرمجة السردية، سواء على مستوى الامكان virtualization أو التحيين، actualisation أو التحقيق réalisation، ذلك أن التقسيم الذي افترضناه للرواية في علاقتها بالتعقيد السردي يجعلنا نقف على حقيقة أساسية، وهي: إعادة تقسيم المقصدية على مستوى تحيينها أو تحقيقها وليس على مستوى حضورها بوصفها إمكانا داخل النص السردي. ترتبط مقصدية المعلم في القسم الأول من روايتنا بما هو إنتاج ´´كسب´´، بينما يعاد تصريفها في القسم الثاني من خلال إعادة تقييمها في اتجاه ما هو "إيديولوجي". هكذا نصبح أمام ثنائية دلالية تتحكم في قيمة الموضوع المتعلق بتحصيل كينونة المعلم. وهي ثنائية تقوم على الانتقال من عالم الكسب إلى عالم النضال السياسي. ويعتبر هذا العالم الأخير بمثابة إعادة تقييم للمقصدية ذاتها، وبالتالي يصبح التعلم -بوصفه مظهرا لمسارات السرد في تحولاتها والمفضية إلى تحقيق كينونة المعلم – مختلفا، حيث يتغير من اكتساب مهارات مهنية إلى اكتساب مثيلاتها على مستوى الفعل السياسي.
إن هذا التوصيف يجعلنا نتحدث عن:
ا. البرنامج الكقاعدة. Programme de bases
2- البرامج السفلى Le proframmes inférieus
3-برامج للإستعمالLes programmes d'usage 4
أولا البرنامج القاعدة:
يعتبرهذا البرنامج بمثابة برنامج شامل يتضمن النوعين الآخرين من برامج، وهو برنامج يرتبط بالكينونة، ففيه تتجه الرغبة نحو تغيير الذات لوضعها، أي لإكسابها قيمة- صفة - وليس نحو العمل على اكتساب شيء ما. ذلك أن ممثل الذات الأساسي`´علي´´، يسعى إلى أن يكون معلما، أي إلى امتلاك هذه الصفة وهذه القيمة، وهكذا يتأطر البرنامج القاعدة بين حالتين: ملفوظ الحالة الذي لا تمتلكيه فيه الذات صفة المعلم، وهو ملفوظ يقوم على الانفصال. وملفوظ الحالة، ا لذي يؤشر على إسناد هذه الصفة إلى ممثل "الذات" علي، والذي يقوم على الاتصال.
البرنامج القاعدة
ليس بمعلم معلم
ملفوظ الحالة ملفوظ الحالة
بدئي ختامي
[ذ U م] [ذ م]
إن البرنامج القاعدة الموصوف على هذا النحو نستنبطه من خلال قراءتنا لمجموع نصنا السردي، ذلك لأنه لا يتمظهرعلى نحو ظاهر ببصفة ضمنية، كما أنه يتأسس انطلاقا من حضور البرامج السفلى التي تغديه وتكسبه مشروعية الحضور سرديا. وهكذا يصبح تحيين هذهالبرامج مع ما يعتبرها من استبدالات، عنصرا حاسما فى تكوين البرامج-القاعدة.
ثانيا : البرامج السفلى :
تتأسس هذه ا لبرامج على تحيين الرغبة في الامتلاك وليس في الكينونة. فسعي الذات يتجه نحو امتلاك ما تقوم به الحياة. الا وهو المال. أو الأجرة البسيطة لإعانة الاسرة. وبإيجاز يتجه السعي نحو ما سميناه بالكسب.
تحكم هذه ا لبرامج ثنائية التقليدي والعصري، حيث نجد برنامجين أساسيين يتوزعان ما هو تقليدي، وبرنامح واحد يؤشر على ما هو مهني عصري. وقد توجد برامج وسطى وانتقالية بين هاته الأصناف قد نتعرض اليها عند تحديدنا للبرامج على مستوى تمفصل الاختبارات Articulation des épreuves. إن هذه البرامج السفلى هي مجرد مسارات سردية للفعل، ترتبط بتحيين البرنامج -القاعدة، كما أنها تقوم على الاستبدال، إذ يستبدل برنامج بآخر، إلى أن نصل إلى مستوى إعادة تقييم الرغبة أو المقصدية، ليتجه بذلك التحيين نحو تحقيق البرنامج الاساسي. ألا وهو ا لبرنامح القاعدة.
ثالثا: برامج الإستعمال
تعد هذه البرامج بمثابة برامج تحتية تتضمنها البرامج السفلى، وغالبا ما ترتبط بالمظهر التأهيلي للذات أو ما يمثلها من ممثلين خلال التحيين السردي. وقد تلعب هذه ا لبرامج دورا هاما في عملية تحيينالرغبة 6 وتحقيقها. كما أنها تضاعنا من تعقيد البناء السردي للنصوص.
1- البرامج السردية السفلى في الرواية
قبل الشروع في تحليل البرامج السفلى لا بد من الإشارة إلى إشكال منهجي يتعلق باستنباط هذه البرامج وطريقة اشتغالها في نصنا الروائي. ذلك أن تصنيفها إلى ثلاثة أنواع متميزة لا يعني بالضرورة بأنها منفصلة عن بعضها البعض، فغالبا ما تتداخل فيما بينها، ويساهم بعضها في تكوين بعضها الآخر. وما التصنيف والتوزيع اللذان نخضعها لهما الا عمليتان منهجيتان نروم بهما البرهنة على تفرد المجاري السردية وتميزها7.
فعندما ننتقل إلى الحديث عن البرامج السفلى بصفة خاصة، فلا بد أن نأخذ بعين الاعتبار برامج الاستعمال، التي تنضوي تحتها وتساهم في تكونها. بل إن برامج الاستعمال هذه غالبا ما تشكل في ورودها مؤشرا على تحول في مسار البرامج كما هو الشأن للبرنامج السردي الأسفل المتعلق بالمرحلة الأولى من التعلم التقليدي.
تتأسس البرامج السفلى على ثنائية التعلم واللاتعلم. فالطرف الأول يرتبط بالمهارة اليدوية، أي فيما يتعلق بما هو مهني تقليدي، بينما يقوم الطرف الثاني على مهارة عضلية فيما يرجع إلى ما هو مهني صناعي. لذلك يرد التقابل ما بين برامج سردية تتأسس على اكتساب مهارات مهنبة، واخرى تتأسس على تسخير الجسد دون اكتسابها. غير أن عدم الإكتساب هذا يملأ بواسطة تعلم مضاعف يتم خارج فضاء المصنع، ألا وهو تعلم النضال السياسي الذي يشكل مظهرا لإعادة تقيم المقصدية القائمة على التعلم ياتجاه تحصيل كينونة المعلم.
ويمكن أن نقسم البرامج السردية التي تقوم على التعلم "التقليدي" إلى صنفين:
1-المبحث الأول :
برنامج التعلم الأول: الطحانة
لا تعتبر الرغبة في التعلم نابعة من الذات في هذا البرنامج، وإنما من الأم بوصفها عاملا مرسلا. ويظل موقف الذات تجاه هذا الإرسال متصفا بالالتباس مما يجعلها. شبه الذات فهي ترفض الذهاب إلى المطحنة قصد التعلم، ولكنها في نفس الآن ترغب في صفة المعلم مما يطرح ثنائيات الحقيقي والمزيف.
إن تقييم الذات للإرسال معبر عنه بقيمة الزائف، وهو ما يبرر رفض علي للعمل داخل المطحنة أو تقاعسه في الالتزام به. غير أن هذا التقييم يتضمن تقييما أخرا ويقتضيه في نفس الآن، وهو ما نعبر عنه بالتقييم الحقيقي الذي يتجه في اتجاهين : اتجاه الآن واتجاه المستقبل. فالتقييم في علاقته بالآن من حيث كونه زمنا سرديا يختزل في الحنين اإلى الراحة والنوم "دئما تزعجينني.. في الصباح، في المساء، في النهار... ما يزال الليل يسدل ستاره على الدنيا وهى توقظنى كما لو كنت مذنبا أساق إلىمصيري"8 "...ليتني أصبحت مريضا فتخلفت عن ا لعمل .... ليت المعلم دهمته داهية فاختفى عن وجهي لعدة ايام"9. عيشة وكنزة والجيلالي يبقون نائمين وأنا، أنا وحدي الذي أواجه غضب العاصفة في هذا البرد القارس"10. كما يتجلى ذات التقييم في علاقته بالمستقبل من خلال الطموح إلى درجة المعلم. ´´وكان علي يحاول أن يبدو ما صغيرا: يجلس جلسته وعلى رأسه طاقيته الملتصقة بأم رأسه، وفخذاه عاريتان متباعدتان، ويمسك بغرباله كما يمسك المعلم..."11. ويختزل تقييم الإرسال هنا على مستوى الحقيقي لا الزائف ثنائية: الطفولة/ البلووغ في علاقتها بالآن و بالمستقبل، مع ما تستتبعده هذه الثنائية من توزع دلالي، إذ يعبر المظهر الحقيق للرغبة عن نفسه في علاقته بالطفولة من خلال ا لراحة والنوم، وفي علاقته بالبلوغ من خلال الجد والصرامة. ببنما يعتبر الإرسال الزائف للرغبة مرتبطا بلحظة الآن وهي مشغولة بنفي كل من الطفولة والبلوغ، إذ أن عليا يقوم بأعمال الكبار دون أن يكون بالغا ، ويتصرف كطفل فقد طفولته، الأمر الذي يبرر ثنائية : لا طفولة / لا بلوغ. فطرف اللاطفولة يؤشر على التعب وقلة النوم، بينما يؤشر اللابلوغ على الهزل والتهاون.
الإرســــال
(الضمني) الحقيقي الزائف (الظاهر)
الآن المستقبل
الطفولة البلوغ لا طفولة لا بلوغ
الراحة الجد – الصرامة التعب الهزل
النوم واللعب التجربة قلة النوم التهاون
إن هذه الترسيمة تمكننا من ضبط منطق التعارض الذي يحكم تبلور الرغبة في شقيها: الرغبة الآمرة الصادرة عن الآخر، ورغبة الأنا الذاتية، حيث تصير الرغبة الآمرة خاضعة لما هو سوسيولوجى بوصفه إرغامات ناتجة عن وضع اليتيم وعن الفقر كذلك، وبالتالي فإقحام الطفل في عالم رغبة الآخر المحدد في تعلم المهنة أمرا لا طبيعيا. وفي مقابل ذلك تظل الرغبة الذاتية الخاصة بالأنا، رغبة مرتبطة بما هو سيكولوجي بوصفه نابعا من متطلبات الطفولة، حيث يكون التوجه نحو اللعب وإشباع الحاجات البيولوجية أمرا طبيعيا. وهكذا يمكن تخصيص منطق التعارض ا لذي يحكم ا لرغبتين على الشكل التالي:
الآخر عالم البلوغ سوسيروجي لا طبيعي
منطق التعارض: VS = =
الأنا عالم الطفولة سيكولوجي طبيعي
إن هذا المنطق المحدد للرغبة يعتبر بمثابة الناظم لعملية التحيين التي سوف تتحكم في البرنامج السردي ومجاريه.
1- تحيين المقصدية:
ا. ا - إن تلقي الذات للإرسال المحدد لموضوع القيمة ´´التعلم´´ لا يعني غياب رغبة الآنا، فهي تعبر عن نفسها بين الفينة والاخرى في نص روايتنا، بل إن هذه الرغبة الذاتية تخضع لصدام مع رغبة الآخر المحدد لموضوع القيمة. ويتجلى هذا الصدام جليا خلال تحيين هذا الموضوع. وإن كان كل تحيين يتطلب تثمينا للإرسال، فإن الممثل الذي يمظهر عامل الذا ت يثمن إرسال الأم بالقبول الاضطرا ري وهذا القبول الاضطراري يتمظهر نصيا من خلال ملفوظات الاحتجاج والمقارنة التي يقيمها الممثل علي بينه وبين من يماثله في عالمه الطفولي، حيث يتم التقابل بين التنعم بالنوم والراحة، والتعرض للبرد القارس وللعاصفة12.
النوم عيشة البرد القارس
الراحة = الجيلالي علي
كنزة العاصفة
2.1-إن تحقيق رغبة الآخر، وبالتالي امتلاك موضوعها، يتطلب تحيينا سرديا يتم وفق ضرورات الاختبارات الثلاثة التالية: -الاختبار التأهيلي- الاختنبار الأساسي -1لاختبار التجميدي13. بيد أن ذلك يتطلب تحوطا منهجيا لا بد من الإشارة اليه، ويتمثل في كون هذه الاختبارات تنبني على الاستلزام، إذ لا يمكن أن يتحقق التالي منها دون سبق تحقق اللاحق، ومن ثمة قد يمظهر نص الرواية اختبارا معينا دون أن يعني ذلك بالضرورة اكتمال دائرة السرد، لأن هذا الاكتمال يتطلب الاستلزام المشار اليه. ويتمثل ذات التحوط المنهجي في كون الاختبار التأهيليلا يعتبر بالضرورة سابقا على صنوه الأساسي إذ يمكن أن يتداخل معه ما دام التأهيل يقتضي إبراز قدرة الذات باعتبارها شرطا لحصول الفعل المفضي إلى التحول والانتقال من حالة إلى أخرى. وهذه القدرة المميزة للذات تتطلب تشكيل ما لصيغ الإرادة -المعرفة -الاستطاعة.
1.3- إن الاختبار الأساسي يتطلب انفصالا مكانيا تنتقل بالذات من مكان الإرسال إلى مكان التحيين، يوجد الموضوع، او يفترض وجود. والانفصال المكاني في رواية المعلم علي لا يعني انفصالا نهائيا، بل هو انفصال متكرر، يتم بين فضائين : فضاءالبيمت وفضاء المطحنة . ويتسم حضور هذين الفضائين بالتعارض على مستوى الدلالة، حيث يتم الانتقال من مكان الألفة نحو مكان الغربة والاضطهاد، ويمكن تمثيل ذلك بواسطة الترسيمة التالية:
البيت (مكان أسروي أمومي) VS المطحنة
الحنو القسوة
الحماية الاعتداء
الأمان الرعب
-" ياليت...ياليت أسيدي يعجبك وتأكله بالصحة والعافية...
وبدا علي سعيدا بالأكل وسعيد بسخريتها أيضا فضحك وهو يجيب: الله يخلي لينا الميمة.
وانتهز فرصة الانفراج في أساريرها فأكب على يدها يقبلها وهو يقول -ارض علينا.. ارضي علينا الله يخليك..
- الله يفتح بصيرتكم للخير"14 (فضاد أسروي أمومي)
"ولم يكد ينحني على اليد المعروقة المتشققة حتى ارتفعت كف قوية سريعة الحركة فلطمت الخد الفتي الذي جمده البرد القارس، ولمع برق بين العينين المرعوبتين ولم ترتفع يده في مواساة إلى خده، فقد خشي أن يعتبر المعلم ذلك شبه تألم فتهوي اليد اليمنى علىالخد الأيسر بمتل ما هوت اليد اليسرى على الخد الأيمن، وإنما وقف متجمدا ينتظر بقية العقاب. وصدق حدسه، فقد نطلق من فم المعلم بصاق لم يفاجئ الوجه
المبلل بماء السماء، وأردف الفم الحاقد:
-الله يلعن الشمايت . 15 (الفضاء المهني)
تسمح هذه الترسيمة بإدراك طبيعة الانتقال من الفضاء الأمومي إلى الفضاء المهني، حيث يكون انتقالا من مجال لا عدواني إلى مجال أخر يتسم بالعدوانية. كما أن الانفصال المكاني يعبر في حضوره عن انشطارالذات بين الرغبتين المشار اليهما سابقا. فالبيت هو مجال رغبة الأنا الذاتية المستمدة من عالم الطفولة بينما المطحنة مجال رغبة الآخر المستمدة من عالم البلوغ.
البيت VS المطحنة
مكان رغبة مكان رغبة
الأنا الآخر
الطفولة البلو غ
إن الانتقال من البيت إلى المطحنة بوصفها مكانا لوجود الموضوع "الكسب والتعلم"، يعني شروعا في سريان الاختبار الأساسي.
ب- سريان التعلم
تتطلب منا بنية التعلم أن نخضعها سرديا لتوصيف خاص يستجيب لموصفاتها على صعيد الفعل وتبادله بين الذوات المعنية به ومما لا شك فيه أن أي تعلم مهما كانت طبيعته، يتكون من أفعال تداولية، او مهارات عملية، ومن أفعال تأويلية تتخذ في صفة التثمين ولتقييم، الأمر الذي يتطلب فهما خاصا لعملية الإنتقال لمرحلة اللاتعلم إلى مرحلة التعلم. كما أن بنية التعلم تتم بين حالتين، يحدث الانقلاب بينهما بواسطة فعل محول على صعيد الكينونة.
(ذ U مو) (ذ مو)
حالــة I حالــة II
الاتعلم فعل محول التعلم
[ مهارات عملية]
[ أفعال تأويلية ]
يجعلنا هذا التوصيف نعيد النظر في ملفوظ المواجهة داخل بنية التعلم، إذ لا تكون المواجهة بين ذاتين مختلفتين: إحداهما تملك الموضوع، والأخرى ومة منه، ترغب في انتزاعه. بل تكون داخل ذات واحدة وموحدة بين قوتين متعارضتين هما قوى الجهل وقوى المعرفة. وبالتالي نكون وعين من المواجهة، مواجهة خارجية يصبح فيها ضد الذات متموضعا فارج الذا ت يحتويه المكا ن العدوانيد ومواجهة داخلية ذات اتصاف سيكولوجي يكون فيها ضد الذات إحدى القوى الكامنة في داخل الذات، ويمكن قي هذا الصدد رواية المعلم علي، نموذجا دالا على هذاالصنف الثاني.
من المفروض أن يساعد المعلم المتعلم على اكتساب ما يرجوه منه من مهارات، فيمكن قوى المعرفة فيه للانتصارعلى قوى الجهل،وذلك بتمكينه من صيغة المعرفة، سواء أكانت نظرية أم تطبيقية. كما أن منطق التعلم يفرض على المعلم أن يراعي تطابق مهارات التعلم مع قدرة الذات المتعلمة زمنيا وطاقويا. ومما لا ريب فيه أن عدم مراعاة هذا التطابق يؤدي إلى انقلاب جذري في ا لدور العاملي.للمعلم حيث يتحول (من طبيعته بوصفه عاملا مساعدا إلى عامل معاكس وضد الذات في نفس الوقت. وبالتالي يصبح سببا في رجحان كفة الجهل بدل أن يكون سببا في المعرفة.
إن هذه الملاحظات المنهجية تعد ضرورية لفهم سريان التعلم في برنامج الطحانة، لأن هذا ا لبرنامج يقوم على بنية التعلم الموصوفة آعلاه.
ب-1- المطحنة مجال للتعلم:
لفهم بنية التعلم في المطحنة لا بل من توزيع فضائها إلى صنفين: الداخل والخارج. ذلك أن الممثل علي يتوزع فعل تعلمه بين داخل المطحنة وخارجها.
الـمـطـحـنـة
داخل VS خارج
إن التعلم المهني التقليدي (الطحانة) مضاعف بحسب الثنائية المتعارضة المذكورة أنفا. فهو يتجه صوب المهنة (الداخل)، وصوب السخرة، لقضاء حاجيات المعلم الدنيوية (الخارج). وهذه المهارة غير المهنية تعضد مجال التعلم المهني وتقويا، نظرا لما تتركا من رضى في نفسية المعلم، ولما تكسبا للمتعلم من حظوة لدى مشغله.
ب-2-التعلم داخل المطحنة :
يمكن أن نفترض تكون بنية التعلم داخل المطحنة على النحو التالي:
إلاتقان VS اللاإتقان الزمن
الخفة VS الثقل الطاقة
لإبراز هذه البنية المتعارضة لا بد من التذكير ببعض العناصر الأساسية:
- إن الحضور داخل المطحنة يعني حضوا لميثاق متعد في التعلم يمكن استشفافه ضمنيا، وهو ميثاق تام بين الأم والمعلم التدلاوي من جهة ، وبين الأم وابنها من جهة ثانية، وبالتالي يكون الميثاق بين المعلم والمتعلم تاما بواسطة ا لتعدي.
- بحضورهذا الميثاق، وبحضورالذات المعنية بالتعلم داخل فضاء المطحنة، يكون ملفوظ المواجهة ساريا بين قوى الجهل وقوى المعرفة.
- إن ملفوظ المواجهة يتطلب من الذات أن تكون قادرة، وهذا يفترض حضور اختبار تأهيلي، يكتسب فيه ممثل الذات علي الصيغ الضرورية التي تأهله للإمجاز.
- يعبر الاختبار التأهيلي في رواية المعلم علي عن حضور، من خلال نداخله مع ملفوظ المواجهة.
- من المفروض في رواية المعلم علي، أن تمكن الذات من صيغة
المعرفة و الاستطاعة لكي تكون قادرة.
إن هذه العناصر تجعلنا ندركك أن عليا وصفه ممتلا للذات هو ماض في احترام الميثاق المتعدي بالرغم من الافعال التأويلية التي يعبر عنها بين الفينة وا لأخرى تجاه موقعه من حيث كونه متعلما ´´- متى سيعفيني الله من هذه المهنة، آشتغل حمارا في المطحنة ومع الحمار في الشارع، ومع ذلك فالمعلم هو المعلم ... الثورة والضرب والاحتقار..
- لأنه معلم وأنا نتعلم...
- صحيح ولكني أستطيع أن أكون متعلما دون ثورة وضرب وشتم...
متعلم... وماذا أتعلم؟ أحمل كيس القمح إلى عين الرحى وكيس الدقيق
إلى المنازل والدكاكين... ...
- لماذا أنا وقدور والساحلي نعيش مع الحمير... وفي المطحتة مع الثائرين الغاضبين... ونعود إلى المنزل أخر النهار ننتظر من أمهاتنا لقمة الخبز وضوء شمعة ودفء الغرفة ... ؟"16. غير أن عليا لا يمتلك الصيغ اللازمة التي تجعله ذاتا قادرة، فهو لا يتوفر على الاستطاعةاللازمة والطاقة لكونه طفلا. وكذلك لا يتوفر على المعرفة الضرورية لانها موضوع وصيغة في نفس الآن. كما أن خرق الممثل التدلاوي بوصفه عاملا مساعدا لدوره، يفضي به إلى التحول إلى عامل معاكس وعامل ضد الذات نظرا لعدم مراعاة شرط التناسب بين المهارات والطاقة الذي أشرنا اليه في التحوطات المنهجية. فهو يأمربما لا طاقة له به، ويكلفه بمنخل أكبرمن طاقته.´´أمسك المعلم التدلاوي بالمنخل الحريري الرقيق، وأمسك علي بغربال السلك الخشن. كانت مهمة علي أن يغربل الدقيق من النخالة خشنة ليترن للمعلم التمبيز بين السميد والدقيق الخالص الرطب والدقيق الخشن، وكان التدلاوي وهو يمسك بمنخله يقتعد كرسيا خشبيا متداعيا يقوم على قائمتين قصيرتين تقتربان من الأرض يباعد ما بين فخذيه على قدر ما يدور المنخل العريض بينهما، [ ...] وكان علي يحاول أن يبدو معلما صغيرا: يجلس جلسته [...] ويمسك بالغربال كما يمسك المعلم، ولكنه يجده أثقل وزنا وأكثر استعصاء على الحركة، فلا يدور في سره كما يدور المنخل الحريري في يد المعلم التدلاوي، ويحس وهو يتلعثم في حركته بأعين المعلم تراقبانه من بين أهدابها، فتضطرب يداه، ولكنه يتماسك حتى لا يقع الغربال منها.
-العامة في بصيرتك.. ستبقى طول حياتك رحويا ولا تحسن الإمساك بغربال..
قالها المعلم التدلاوي في غضب، والشرر يتطاير من عينيه، فانتفض على كما لو أخذ على غره.ونهار الغربال من بين يديه، فاختلط ما نخل بالدقيق غير المنخول. وازداد غضب المعلم فارتفعت يده اليمنى لتطبع صفعة قوية على خد علي الأيسر.
قم .. قم يا نذل.. حسبتك إنسانا قابلا للتعلم، ولكنك حمار.."17
وهذا يؤدي إلى عدم وجود التكافؤ بين الفعل الذي تقوم به الذات وبين الطاقة التي تمتلكها والحيز الزمني المقلص الذي يتناسب مع ا لفعل أيضا.".. معلم.. يشغل نفسه بالمنخل الخفيف ليترك لي الغربال الثقيل ثم يحدجني بنظرات من نار ويطلب إلي ألا تضطرب يداي..الصنعة، أتقنها في ثلاثين سنة ويريدني أن أتقنها في سنة .."18
`فإذا كان الإتقان- .بوصفه درجة عليا من درجات المعرفة كموضوع- موضوعا يجب امتلاكه لكي يتحقق الإسناد كملفوظ نهاني في الاختبار الأساسى، فإن ذلك لن يتم إلا إذا حصل التكافؤ المطلوب بين الفعل والزمن، والذي يؤشر على سريان بنية التعلم دون تعطل. إن عدم التكافؤ المشار اليه يطبع ملفوظ المواجهة الداخلية في رواية المعلم علي أم التى تتم بين قوتي الجهل والمعرفة، وهكذا يؤشر اللاتكافؤ من خلال التعارض بين ثنائية الثقل والخفة في علاقتها بالسن.
الطفولة VS الثقل
البلوغ الخفة
ويؤدي هذا التعارض إلى خرق مبدإ تناسب الفعل والطاقة كما يعضد هذا الخرق تعارض أخر:
البلوغ VS زمن ممدد
الطفولة زمن مقلص
ويؤدي هذا التعارض الجديد إلى خرق مبدإ الإتقان الذي لا يحصل بتناسب الفعل مع زمن المهارات.
نستنتج من حضور الخرق على مستوى التعارضين المذكورين، أن ملفوظ المواجهة بين قوى المسرفة وقوى الجهل لا يفضي الى قوى الكينونة: لأن الفعل المحول يفتقر إلىالشروط البراغماتية التي تمكنه من أن بكون ناجعا. علاوة على هذا فملفوظ المواجهة هنا لا يدل على الإخفاق، يل يدل على عدم القدرة، وانتفاء التأهيل اللازم لحدوث تحيين فعل التعلم المفضي إلى الهيمنة على الموضوع (المعرفة). والسبب في ذلك يعود إلى تناقض العامل المساعد مع ذوره وتحوله إلى عامل معاكس وعامل ضد الذات. ولعل هذا الأمر هو ما يجعل الذات "علي ترغب في اختفاء التدلاوي أكثر مما ترغب في رفض العمل. ويتجلى ذالك بصفة واضحة من خلال ملفوظات التمني التي يبرزها النص في لحظات الإحساس بقسوةالمعلم". - ليت المعلم دهمته داهية فاختفى عن وجهي لعدة أيام"19.
"-خرجت بسلام كما يمكن أن ( لم يجرأ علي على أن يفكر في كلمة الطرد) معلم كهذا يفلت منه زمام أعصابه ويثور لأقل سبب ينتظرني على باب المطحنة دون أن يرحم نفسه من المطر القاصف والرياح !لعاصفة فيدخل المطحنة، لأنه فقط مشغول بعقابي، الحمد لله مرت بسلام"20...
ب- 3- شروط التعلم خارج المطحنه:
يمكن أن نوزع هذا المستوى إلى وحدتين سرديتين متميزتين : - الطريق إلى موضوع الرغبة الآمرة . - المهارات المدعمة (السخرة).
ففيما يخص الوحدة السردية الأولى، نلاحظ أنها تنصب على موعد
العمل، كما أنها تتأسس على التعارض الدلالي التالي:
الانضباط VS التأخر
مما لاشك فيه أن الانضباط يعد شرطا طبيعيا لسريان التعلم وتمام العمل، غير أن التأخر يغلب على علاقة علي بالعمل. ولعل ذلك ناتج عن عدم التناسب بين مقتضيات زمن العمل ( التبكير /والبعد السيكولوجي. البيولوجي للذات نظرا للتعارض بين متطلبات الطفولة: [الحاجة إلى القدر الكافي من النوم لحصول النمو الطبيعي للجسد] وبين البلوغ [القدرة على التحمل]. ويعبر عن ذلك نصيه باحتجاج علي وشكواه من البرد."-عيشة وكنزة والجيلالي يبقون نائمين. وأنا، أنا وحدي الذي أواجه غضب العاصفة في هذا البرد القارس..."21.
إن التأخر بوصفه مؤشرا على عدم التناسب (وبالتالي على عدم الاستطاعة) يفضي إلى حضور تعارض على مستوى رد فعل العامل
الملتبس : (مساعدا، معاكس، ضد الذات) نحدده على النحو التالي:
العقاب التسا مح
الاتسامح اللاعقاب
فحضور العقاب أوعدمه مرتبه بالثنائية الزمنية
شتاء VS صيف
وهذا الارتباط بدوره رهين بالربح الذي يحضر ضمنيا من خلال إشاره النص الصريحة إلى كثرة العمل أو قلته. "لم يلتفت بباب المطحنة باحثا عن علي، فقد كان رضي النفس منشرح الصدر وهو يعلم انه يستقبل يوما مباركا وأياما مزدهرة بالعمل والنشاط والكسب"22. "وكان الصيف مناسبة طيبة فتحت شهية الناس- كما تنفتح كل صيف عندما يكون مثمرا- على أن يتزوجوا وان نفلوا بزواجهم فيطعمون المئات ويكرمون الآلاف، [........] كل فكرة من هذه الأفكار التي تغشى المدينة في أيام الصيف ولياليه و كل حركة من هذه الحركات التي تعج بها المدينة كانت تدر على المعلم التدلاوي الخير والبركة، ولذلك لم يكن يقدم على المطحنة وهو مغتم النفس تلف الأعصاب، وإنما كان يقدم عليها نشيط الحركة خفيف الثياب متفتح القلب لا يفكر في المتعلم علي بقدر ما يفكر في العمل، ولا يضيق بتأخره كما يضيق في أيام الشتاء."23 وما مزاج المعلم التدلاوي في لينه أو قسوته، وفي تسامحه أو عقابه، الانتاج لهذا الترابط الدلالي المتعدي بين العقاب والقلة، والتسامح والكثرة.
العقاب اللاعقاب
مزاج التدلاوي =
القلة الكثرة
وهكذا يصبح العقاب في وروده أو عدمه سببا يعضد تعارض المعلم التدلاوي مع دوره الطبيعي، مما يزيد من حدة عدم التأهيل: وذلك بنفي الاستطاعة التي تتبلور نصيا من خلال الثنائية الدلالية:
الخوف vs الإقدام
فحجم إقدام الذات على التعلم يتقلص- وبالتالي يتضخم الإحجام عن المواجهة، حيث يأدي ذلك منطقيا إلى استمرار قوى الجهل في سيادتها-مع ازدياد حجم الخوف من العقاب.
وفيما يخص الوحدة السردية الثانية، فإننا نلاحظ قيامها على انجاز مهارة احضارالفطور. وتكتسي هذه المهارة طابع برنامج الاستعمال كماحدده غريماس Greimas و كروتيس Courtés في معجمهما23 م. وهو برنامج سردي تحتي يتضمنه البرنامج الأسفل الخاص بالطحانة. ويتطلب تحليله إخضاعه لتوصيف سردي خاص، وذلك بضبط بنيته المستقلة، ثم ربطها فيما بعد بما يعلوها سرديا مع ضبط الآثارالتي تخلفها على صعيد تاهيل الذات.
يتم الإرسال في هذه البنية السردية التحتية بين المعلم وعلي، ويتخذ: إحضار الفطور موضوعا له. ولعل موقع الممثل علي المتعين فاخانة الأسفل، في مقابل موقع المعلم المتعين في خانة الأعلى، يجعل من الإرسال إرسالا آمرا لا يتسم تثمين الموضوع فيه من طرف الذات بالحرية ( القبول أو الرفض)، بل يتسم بالإذعان اللامشروط، مما يجعل منه إرسالا شبيها بالرغبة الآمرة الصادرة عن الأم التي تؤطر مقصدية التعلم ككل. لكن ما يثير الدهشة، هو كون القبول المدعن للإرسال يوازيه المرح في مقابل حضور القلق في البرنامج الأسفل الخاص بالطحانة لأنه يتيح إمكانية التحرر من الشغل في المطحنة ومن التدلاوي كذلك، ولو بشكل مؤقت، الأمر الذي حددناه سابقا على أنه إذعان تام. وهكذا يصبح الإذعان قبولا ناتجا عن طواعية مسرفة في كرمها.
وبتمام الإرسال، يحضر الانفصال المكاني، بحيث تنتقل الذات من مكان عدواني (المطحنة) إلى أخر نقيض، (الأزقة)، حيث الانطلاق والتخفف من الوجود الآمر للمعلم. وما الأزقة إلا تعبير عن مكان وسيط يقع بين مكان الإرسال، ومكان تواجد الموضوع (الفطور)، بيت التدلاوي. كما أنه يمكن أن تعتبر الأزقة، مكانا لسريان التأهيل.
ولإبراز دلالة الأزقة على هذا النحو، يجب أن نتساءل عز الرغبة الآمرة ( إحضار الفطور)، وتحقيقها. ومما لاشك فيه أن ذلك يخضع لمسار لا يتسم بالهيمنة على الموضوع وامتلاكه بانتزاعه من ذات إلىأخرى، ولكن يتسم فقط بنقل موضوع الرغبة من مكان إلى أخر، أو من مكان الإعداد إلى مكان الاستهلاك. الأمر الذي يجعل من الطريق (الأزقة ) مجالا لسريان النقل، كفعل محول في برنامج السخرة التحتي وكفعل مؤهل في برنامج الطحانة الأسفل. إن فعل النقل الذي حددناه أعلاه يفرض علينا إيجاد ملفوظات سردية تناسبه ولا تخل في نفس الوقت بملفوظات لاختبار الأساسي التي حددها غريماس في مشروعه السيميائى. ويمكن في هذا الصدد أن نقترح لذلك، الملفوظات الثلاثة التالية:
الاختبار الأساسي لبرنامج السخرة
استلام الموضوع من المعد حمايته إسناده للمستهلك
إن ملفوظات الاختبار الأساسي ( المواجهة - الهيمنة -الإسناد) الواردة عند غريماس تتأطر جميعها تحت ملفوط الحماية الذي يكون مجال سريانه، الطريق (الأرقة)حيث تكون المواجهة افتراضا بين اللصوص أو العابثين أو زحمة الطريق أو شارد غير منتبه. وتكون الهيمنة ماثلة فى خروج الذات من نفق الطريق وتجاوزها لغوائلها ومصاعبها. ويكون الإسناد امتلاكا تاما للموضوع من دون أي نقصان.
إن هذا التوصيف لملفوظات السخرة السردية لا يتم على النحو المذكور،إذ إن الذات تخفق في حماية الفطور، فلقد أسقط من بين يديها. ´´وإنما تقدم نحو علي ودفعه دفعة قوية أوقعته عن حماره. وكانت زلافة الفول الضحية الأولى، تناثرت حباتها وتشربت الأرض المتربة ومرقها.24 وما ضياع الفطور، إلا فقدان للموضوع، ودلالة عن غياب الاستطاعة لأن الذات غير قادرة على مواجهة زحمة الطريق، وبالتالي يشير عدم القدرة على حماية الموضوع إلى الإخفاق في تحيين الإرسال، الأمر الذي يفضي إلى عدم التحقيق.
ج- الأثر العكسي :
إن الإخفاق الذي يسم برنامج الاستعمال السخرة ينسحب إثره على البرنامج الأسفل الأول حيث تكف الذات عن الانصباع إلى الرغبة الآمرة، وتكف عن الفعل داخل المسارات التي تقتضيها هذه الرغبة. ومالعودة إلى البيت إلا تعبير عن هذا الكف الذي يوازي إعادة تقييم المقصدية في اتجاهين: اتجاه أول يتمثل في تفادي العقاب سواء كان صادرا عن المعلم التدلاوي، أو عن الأم، وبذلك تكون العودة إلى البيت شكلا ما لتفادي عقاب التدلاوي. واصطناع الرغبة في الفطور، استراتيجية لتفاذي عقاب الأم، ´´ - [...] أخبرني لماذا عدت؟
- عدت لآكل لقمة خبز .. أليس لي حق في أن أكل ؟´´25. وهذا التفادي المزدوج للعقاب يخفي وحدة الرغبة الآمرة باعتبارها عائدة على الأم منجهة، وعلى المعلم التدلاوي من جهة أخرى. كما أن النص الروائي يوحي بشكل ضمني على استراتيجية أخرى تأشر على الاتجاه الثاني في إعادة تقييم المقصدية، ألا وهو المراهنة على الأمر الواقع الذي يتضمن المراهنة كذلك على الزمن وعلى الصدفة أيضا.
وهكذا يكون جماع هذه العناصر، دليلا على حضور العصيان في مقابل الإذعان الذي يجعلنا نتحدث عن ثنائية دلالية أخرى:
الإذعان VS العصيان
فحضور العصيان بوصفه طرفا ثانيا في هذه الثنائية، يدل على تقييم ضمني تقوم به الذات عن طريق الفعل تجاه برنامج التعلم الأسفل الأول (الطحانة). كما يدل من جهة ثانية، على رغبة أخرى بديلة تستشرف أفقا أخر. غير معلن عنه خلال عودة علي إلى الدار، ومعلن عنه في لحظة سابقة على ذلك، حين إنجازه لفعل تأويلي بصدد تأنيبه من طرف المعلم التدلاوي ´´- متى سيعفيني الله من هذه المهنة، أشتغل حمارا في المطحنة ومع الحمار في الشارع، ومع ذلك فالمعلم هو المعلم ... الثورة والضرب والإحتقار".26
2- المبحث الثاني :
برنامج التعلم الأول (الدباغة)
أ- الرغبة المقصدية :
يعرف هذا البرنامج انقلابا في مصدر الرغبة أي الإرسال -إذ لم يعد نابعا من الموقع الآمر (الأم )- حيث تبدي الذات (علي) اهتماما بمصيرها عن طريق دفع الأم إلى التوسط لدى الجيران. لمساعدته قي البحث عن العمل، وإن كان هذا الاهتمام يبدو ملتبسا، إذ ترغب الذات التحول من مقصدية تعلم الحرفة إلى مقصدية تعلم التجارة. ´´أتعلم (في دار السلعة) كيف أتاجر وهكذا يمكن أن أصبح تاجرا كبيرا"27 وحين تدرك الذات استحالة ذلك به فعل توضيح الأم لطبيعة التجارة وتحققها، فإنها تحتفظ فقط بالرغبة في العمل دون تحديد طبيعته. "-تاجر كبير؟ الحاج عبد القادر لن يعلمك أن تكون تاجرا كبيرا أن تكون تاجرا كبيرا.. المال هو الذي يعلمك أن تكون تاجرا كبيرا. الحاج عبد القادر لم يكن متعلما قبل أن يصبح تاجرا وإنما كان.."28 ويتمضهرهذا الانقلاب في مصدر الرغبة نصيا من خلال القلق الذي يسشعره علي تجاه وضعه بدون عمل"- مرة أخرى أصبح فى الشارع.. عبئا ثقيلا على هذه الأم التي تشتغل يوما وتتعطل أياما... أين أجد العمل.."29 ويرتبط هذا الانقلاب بالتحول في السن، حيث يتم الانتقال من الطفولة إلى البلوغ. ويظهر ذلك من خلال مخاطبة الأم لابنها،´´-الله يرضي عنك يا بني .. الآن أصبحت رجلا" 30، ومن الدردشة بين المتعلمين داخل دار الدبغ ´´-اسمعوا يا إخوان .. نحن أصبحنا رجالا ولم نعد أطفالا [...] -ومن حقنا أن نثبت رجولتنا"31، وحين يعبرون عن إدراكهم لتحولهم من حيث كونهم أطفالا إلى مرحلة أصبحوا فيها رجالا.32
إن هذا الانقلاب سوف يقود إلى بنية إرسالية متعدية: حيث نستنتج ضمنيا أن كل رغبة تعبر عنها الذات، تعد إرسالا داخليا يتم انطلاقا من الذات نحو نفسها. وهذا بالضبط ما يميز الإرسال في هذا البرنامج. لكن الذات (علي) بحكم عدم درايتها وافتقارها إلى العلائق الاجتماعية، وعدم اكتمال دخولها النهائي في عالم الكبار، ترسل رغبتها نحو الأم التي تصبح عاملا مرسلا اليه ومساعدا في نفس الوقت. وهذا ا لإرسال سوف يتعدى بدوره الأم نحو الجيران الذين يضاعفون دور الأم، ويشكلون معها عاملا تأليفيا Syncritique´´ فكرت طويلا، وفكرت معي للاخدوج الله يعطيها على قد قلبها ووعدتني بأن تكلم زوجها سيدي معروف فهو يعرف المعلم الدباغ سيدي..؟ الله يفكرنا في الشهاذ ..´´33. وإذا كانت الرغبة التي يبديها علي تتخذ صفة التحديد العام ؟ أي (العمل) مع تحديد مضمونه الإمكاني (التجارة). ´´- [...] ولم يمر كبير وقت حتى أصبح تاجرا كبيرا يتربع على دست ´´دارالسلعة ´´ يحيط به المتعلمون ويقصده التجار المتوسطون والصغار يأخذون البضائع ويعطونه المال الكثير"34 فإن المرسل إليه الجيران الذي يمثله ´´سيدي معروف `` يعطي للرغبة تحديدا خاصا (الدباغة). كما أن التعارض الذي ذي لاحظناه في برنامج الطحانة بين رغبة الأنا والرغبة الآمرة ينتفي في هذا البرنامج. وتقوم مقامه رغبة ، بارزة واضحة، وهي رغبة تعدل من طابعها الأول القائم على التعارض لتصبح متماهية مع رغبة المجتمع. ومثل هذا التحول يدل ضمنيا على الانفصال عن عالم الطفولة، والاتصال بعالم البلوغ.
ب- تحيين المقصدية :
ب-1- الإنفصال المكاني
لا يتم هذا الانفصال بين البيت وما يغايره كما هو الحال في البرنامج الأول، بل يتم بين فضاء القلق ( التسكع – العطالة)35، وبين فضاء العمل. كما أن هذا الانفصال لا يدل على الانتقال من فضاء لامريح، إلى فضاء مريح، بل على الانتقال إلى فضاء يتسم بحضورالتذمر، مما يجعله موازيا على صعيد المحتوى لفضاء المطحنة.
وقد يتضح ذلك جيدا من خلال فعل علي التأويلي، الذي يطال علاقته بضد الذات (المعلم عبد القادر). "-المعلم التدلاوي أكثر رحمة من المعلم عبد القادر.. كان يؤذن لي بالغذاء عند أذان الظهر.. يخشى الله أكثر من المعلم الجديد.."36.
إن محتوى اللقسوة المميز للمكان المنتقل اليه مؤشر عليه من خلال طابع المقارنة الذي يصف هذا الفعل التأويلي. وكأن الأمر يقوم على تعارض دلالي بين:
اللاماء (غبار الطحين) VS الماء (الصهارج)
غير أن هذا التعارض ينمحي بمجرد أن ندرك أن طرفي التعارض يلتقيان فيما يتركانه من أثر على الجسد.
ب.2. الفضاء ومسرحة العوامل :
نقصد بمفهوم المسرحة ذلك الفعل الذي تقدم به الشخصيات المسرحية كأسماء وأدوار، وخاصة قبل النصوص المسرحية المتضمنة بين دفتي كتاب وحين نوظف هذا المفهوم في علاقته بالرواية فإننا نتغيى من وراء ذلك تقنين الملفوظات السردية التي تشتغل قبل تحيين البرامج بهدف إدخال ممثلن جدد إلى العالم السردي. ويتطلب هذا التقنين ضبط هؤلاء الممثلين في علاقتهم بالفضاء الذي ينسلون عبره إلى النص دون الاهتمام بعوامل الجدال والصراع. ويقتضي منا أمر إيضاح مسرحة العوامل في هذا البرنامج، النظر إلى الفضاء المتصل به من خلال ثنائية الداخل والخارج.
ب.2ا. السوحة الداخلية : التواتب :
تقدم العوامل داخل دار الدبغ من خلا ل بنية تراتبية، المعلم فالصانع فالمتعلم. ويتحكم في هذه البنية التراتبية التعارض الوظيفي التالي:
الاشتغال VS الإشراف
كما أن التراتب يختزن طموحا في الانتقال من الأسفل إلى الأعلى بالنسبة لممثليه (المتعلمون) الذين يعبرون عنه. ويظهر هذا الطموح من خلال خطاب السخرية الذي يختزن بدوره ثنائية:
الواقعي VS المتصور
- سمعا وطاعة المعلم التهامي .. ! بربش .... إذا كنت صلبا اقترب من جلودي لترى جسمك في المجيار..
´´"- إنني أمزح معك.. السطح كله لك المعلم علي.."37
إن ما يتحكم في هذا التراتب، ليس العمل ودرجة إتقانه، بقدر ما يتحكم فيه معيار اجتماعي يعبر عنه نصيا: بالجاه، ولذلك يعد الانتقال من موقع إلى أخر، مسارا يفضي إلى احتدامات بين طموحات مرتبطة بما هو اجتماعي. وما دامت مقولة الممثل (المعلم) متعددة في دارالدبغ38). فإنها متسمة بثنائية دلالية متعارضة.
الوفــاق VS الخصــام
إن ما يضمن سريان هذه الثنائية دون طغيان إحداها على الأخرى، هو حضور الأمين ´´فضول ´´ لضمان التساكن والتعايش داخل بنية الصراع التي تحكم الوجود المشترك للمعلمين. [...] واستفاد المعلم فضول من أخطاء سلفه فأخذ يعالج المشاكل بهدوء أعصاب وبحكمة وروية فيخرج الخصمان راضيين بحكم وسط لا يدين أحدهما، ولو أن كلا منهما يذهب وهو يعتقد أن الحكم كان لصالحه.."38
ب 2-2- المسرحة الخارجية اللاتراتب
يقدم الخارج بوصفه مقولة فضائية تؤطر العوامل في علاقتها بمقولة الداخل الفضائية، من خلال الثنائية التالية :
المهني VS الثقافي
يمسرح الخارج بوصفه تمظهرا ثقافيا لفضاء الدباغة من خلال موسم
´´مولاي ادريس´´ الذي يتم فيه تبئير الدباغين من حيث كونهم ممثليننشيطين وأساسيين" [...] وكان الدباغون في مقدمة رجال الصناعة الذين يحتفلون بالموسم العظيم، ولذلك كان الحرفيون يتنازلون لهم فيه عن اليوم الكبير، يوم الموسم، ليكونوا في مقدمة الركب الذي يحج إلى الضريح في مظاهر رائعة..."39. ويختزن هذا المهرجان في حضوره بعدا دلاليا مزدوجا ومتعارضا:القحــط VS الخصـب
وترتبط هذه الثنائية بثنائية أخرى أعمق منها وهي:
السماء VS الأرض
وما المهرجان سوى إقامة نوع من ترضية السماء لمصلحة الأرض، عبر ترضية الولي مولاي إدريس بوصفه وسيطا بين الطرفين. "وكان الموسم الماضية، احتفاء بسنة جديدة مقبلة بعد أن يدفن الصيف تحت حر لفيحه السنة الماضية احتفاء رجاء وأمل وتقرب أن تروي السماء الأرض العطشى. وأن تهطل الأمطار بغزارة على الطاقة التي تحرك دولاب العمل في المدينة"40.
إن هذا المهرجان بوصفه مظهرا لخارج فضاء الدباغة، يمثل في الرواية بنية للفعل الكرنفالي. وهذه البنية قائمة في مجملها على حضور. في مقابل اللامتعة التي تسم دلالية فضاء الداخل في مجملها على حضور المتعة في مقابل اللامتعة التي تسم دلاليا الفضاء الداخل.
إن الفضاء الكرنفالي للمهرجان يلغي التراتب بين ممثلي العمل داخل دارالدبغ (المعلمون - الصناع - المتعلمون). فالجميع يساهم في إنجاز: الفعل الكرنفالي كبرنامج سردي متضمن دون شعور بالتبعية أو التراتب. كما أن ذات الفعل يتأسس سرديا على النحو الآتي:
إرسال ثقافي - الرغبة في الـتـقـرب
استرضاء السماء (المطر) لاستعداد/الحقل / التمتع انتظار الخصب
المجتمع تحيين الرغبة الجماعية
الاتـصـال بالـولـــي
انـتـهـاء الـسـنـة انـتـظـار سـنـة جـديـدة
ج. مسرحة العوامل وأهلية الذات
إن مسرحة العوامل تخفي في طياتها اتصافا سرك يا لا بد من التذكير به وهو أن ممثل الذات (علي) يحتاج لكي يكون ذاتا إجرائية، إلى تأهيله كذات قادرة. وإذا كان تحيين أية مقصدية لا ينفصل في حضوره عن الفضاء الذي يتم فيه، فإن سريان التعلم في برنامج الدباغة يحتاج إلى التعرف على طبيعة الفضاء، (دارالدبع) وعلى العوامل التي يعج بها. وهكذا تصبح مسرحة العوامل داخل الفضاء وخارجه من أشكال التعرف، حيث نقف على طبيعة مهنة الدباغة وأطرها وتقاليدها المهنية والثقافية. ويعتبرالتعرف شكلا معرفيا يتأطر ضمن صيغة المعرفة. ومن هنا يعد ما يقدمه النص من مسرحة للعوامل، تمظهرا نصيا لاكتساب الممثل (علي) لهذه المعرفة التي تختزل في المظاهر التالية : - التراتب الانصياع - الانضباط . فالتراتب يقتضي تبعية المتعلم للصانع فالمعلم (علي ï الصانع ï عبد القادر). ويقتضي الانصياع، القيام بما هو مهني (تكليف مهني واجب Devoir) دون احتجاج أو شكوى، يينما يؤشر الانضباط على احترام مواقيت العمل.
ذ- سريان العمل في برنامج الدباغة.
لن نحتاج في هذا الصدد إلى التذكير ببنية التعلم، فلقد أرسينا طبيعتها وعناصرها في برنامج الطحانة. كما لن نحتاج كذلك التذكير بالملفوظات السردية التي تخص سريان هذه البنية، فلقد ورد ذكرها في نفس البرنامج السابق. بيد أن المواجهة في هذا البرنامج لا تتم بين قوى الجهل والمعرفة فقط، بل تتم أيضا بين الذات وشروط العمل.
´´
بابها نوارة أمام داخلها العجيب: غرف وبيوت ودهاليز ومطامير ودروب وزقاقات وحواري وشوارع ولكن أعجب ما فيها أنها مليئة بالصهاريح والسقايات´´41. "عملنا كله في الصهاريج والسقايات ... أسمعت أن إنسانا يعوم طول حياته´´42.كما أن الممثل (المعلم) يلعب دورا مقلوبا كذلك، إذ يتحول من طبيعته بوصفه مساعدا إلى معاكس، - مثلما هو الشأن في برنامج الطحانة حيث يماثل المعلم عبد القادر في انقلاب دوره العاملي، الممثل التدلاوي،
´´وتفجر الغضب في اليد التي تقطر دباغة، وانطلقت كالصاعقة لترسم لطمة قوية على الخد الذي نسي اللطمات منذ أيام المعلم التدلاوي..´´م42 وعلاوة على ذلك، فإن الممثل (المعلم عبد القادر) يمظهر على نحو جلي دور العامل ضد الذات، أكثر مما يمظهر المعلم التدلاوي في الطحانة، فيكون ملفوظ المواجهة تاما بين ممثل الذات الفردانية (علي) وبين مشروطية العمل، وبينه وبين المعلم عبد القادر، الذي يسهر على ضبط مهارات العمل ومراقبتها، أو على احترام شروط العمل وأساليبه. ومن ثمة يصبح هذا المعلم ممثلا للعامل المعاكس ومضاعفا للعامل ضد الذات. ولكي تجعل الذات (علي) فعل المعاكس عبد القادر محايدا، يجب أن تتغلب على شروط العمل. ولقد سبق وأن ذكرنا فيما يخص معرفة طبيعة العمل وفضائه، مظهر الانضباط. ويعتبر التأخر عن العمل في دار الدبغ أول فعل يؤشرعلى عدم انضباط علي، مما يعرضه للعقاب. وهو الأمر الذي ينسحب على طبيعة صيغة المعرفة آنفا والمكونة لأهلية الذات. ويقودنا هذا التحليل إلى إعادة النظر في اشتغال الصيغ هذا البرنامج. فقد تمتلك الذات صيغة ما ( وهي في هذا المضمار، صيغة المعرفة المتمثلة في التعرف على الفضاء والعوامل التي يزخر بها) لكن تصريفها لهذه الصيغة قد لا يكون تصريفا صائبا، الأمر الذي يفضي بها إلى فقدان أهليتها أو إلى إعادة تصييغ الصيغة، أي إعادة معرفة المعرفة أو تعضيد الصيغة بصيغة أخرى لاكتساب التأهيل والقدرة. ولا شك أن تعضيد الصيغة هو الأثر الذي ينتج عن عدم انضباط علي (التأخر). وقبل حدوث هذا التعضيد، يحتاج الأمر إلى تصييغ صيف المعرفة عن طريق معرفة أخرى:معرفة المعرفة ß تعضيد الصيغة (الاستطاعة = الاتحاد)
ويعبر عن معرفة المعرفة بواسطة فعل تأويلي، -ذلك أن التأخر يفضي إلى نفس النتيجة سواء كان واردا في المطحنة أو في دار الدبغ-43 وبالتالي يصبح المعلم عبد القادر مماثلا للمعلم التدلاوي. ولا شك أن هذا التقييم للمعرفة الحاصلة خلال مسرحة العوامل يفضي الى تعضيدها غير أن هذا التعضيد يتم بواسطة عامل مضاعف وتأليفي للعامل الذات يتكون من ´´الحياني´´ وعلي و´´الجامعي´´. ومن ثمة تحصل المواجهة بين ذات أليفية مكونة من المتعلمين، وبين ضد ذات أخرى تأليفية مكونة من المعلمين. ويصبح الاتحاد بوصفه مؤشرا على صيغة الاستطاعة المعضدة، استراتيجية لإمكانية قهر المعلمين أو إضعاف قوتهم، وتحييد فعلهم المتمثل في الطرد. ويغدو تجنب الطرد موضوعا مضاعفا لتحصيل الموضوع الأول، أي التعلم، ويعتمد في ذلك على تأهيل الذات التأليفية بواسطة صيغة الاستطاعة (الاتحاد) التي تظل معلقة، مما يجعل التأهيل المذكور، سواء في طابعه الفرداني المبأر Focaliséتأهيلا معلقا بدوره. ويظهر هذا التعليق في الصراع الداخلي الذي تعيشه الذات في شكلها الفرداني (علي) بين ممثل الخوف (البرنوصي) وممثل الإقدام (الحياني). وذلك صراع بين عالم الطاعة وعالم العصيان، وبين عالم الوعي الممكن (الحياني، عبد العزيز)، وبين عالما الوعي القائم44، الذي يجسده الرأي المشترك (الأم - البرنوصي)45.
وهكذا يولد فعل العقاب البرغماتي أفعالا تأويلية تؤسس حضورا ما للصيغة التي تمكن الذات من التأهيل، وهي كالتالي:
- معرفة المعرفة الأولى: تنتج عن تأويل الممثل علي للعقاب46
- الاستطاعة المعضدة: وتنتج عن تعضيد الصيغة الأولى القائمة على التعرف بصيغة قائمة على استراتيجية طاقوية (الاتحاد). "نحن المتعلمين يجب أن نتحد"47.
- معرفة المعرفة الثانية: وهي صيغة تنتج عن الفعل التأويلي الذي يصدر عن الذات المضاعفة (الحياني - الجامعي)، وتعتمد لتوضيح محتوى الاتحاد وأهدافه. "-لا تحتد فلو اتحدنا لما طرد أحد منا" 48. وهكذا يمكننا أن ترتب الصيغ على نحو جديد:
معرفة المعرفة ( ا) معرفة المعرفة (2) الاستطاعة.
تسهم المعرفة الأولى في تكون الذات التأليفية، أو مسرحتها نصيا لكن للانتقال إلى استراتيجية الاتحاد. لكن هذه الاستراتيجية تكون عديمة الجدوى، من دون معرفة المعرفة الثانية ذات البعد التأويلي، التي تكتسب صفة الإقناع، الذي يمارسه الحياني لكسب علي وغيره من المتعلمين. ولذلك يمكن أن نرتب المعرفة الثانية في الدرجة الثانية لكونها شرطا إقناعيا لحصول الاتحاد.
نستنتج من هذا التحليل أن الاختبار التأهيلي لم يتبلور في هذا البرنامج قبل الاختبارالأساسي، وبصفة منفصلة عنه، حيث نراه يتداخل معه، وبالضبط مع ملفوظ المواجهة المتضمن فيه، مثلما كان الأمر بالنسبة لبرنامج الطحانة. ونستنتج بالإضافة إلى ذلك، أن عملية التصييغ تقوم على التكون التدريجي بموازاة مع مسرحة ا لفضاء، ومع مسرحة العامل ضد الذات الذي يتحدد بالقياس إليه ورود ملفوظ المواجهة أو عدم وروده.
***************
الهوامش
1- Greimas.Algirdas. Julien, - Cortes. Joseph, Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Ed, Hachette Université, Paris, 1979.p.422.
2.غلاب. عبد الكريم، المعلم علي، رواية، ط.4، الدارالبيضاء 1984. ص.8-9.
3. Eco. Umberto, Sémiotique et philosophie du langage, Ed. P.U.F. Paris, 1988.p.110.
5. ذ = ذات - م = موضوع.
6- Greimas. Algiradas. Julien, - Courtes. Joseph, Dictionnaire, Op.cit, p. 298.
7. نستخدم مقابلين مترادفين لمقولة Parcours: مسار ومجرى.
8. المعلم علي، ص. 6.
9.المعلم علي، ص. 12.
10.المعلم علي، ص. 14.
11.المعلم علي، ص. 54.
12.المعلم علي، ص. 14.
13.نحاول في هذا المضمار أن نتقيد في حدود الإمكان،وبمراعاة
لخصوصية موضوعنا، بما جاء في كتاب الدلالة البنيوية، بصدد الاختبارات الثلاثة.
Greimas. Algirdas. Julien, Sémantique structurale, Ed, Larousse, 1966.p. 197.
14. المعلم علي، ص.99-100.
15.المعلم علي، ص.22-23.
12.المعلم علي، ص. . 2-62.
17.المعلم علي، ص.53-55.
18.المعلم علي، ص.58.
19.المعلم علي، ص. 12.
20.المعلم علي، ص. 26.
21.المعلم علي، ص. 14.
22.المعلم علي، ص. 42.
23.المعلم علي، ص. 42-43.
23. b. Greimas. Algiradas. Julien, - Courtes. Joseph, Dictionnaire, Op.cit, p. 298.
24. المعلم علي، ص. 75.
25. المعلم علي، ص. 77.
26. المعلم علي، ص. .6.
27.المعلم علي، ص. 1.1.
29.المعلم علي، ص. 1. ا-2. ا.
30.العلم علي، ص.87.
40.المعلم علي، ص. 110.
31.المعلم علي، ص. 177.
32.نستنتج هذا الانتقال من خلال الملفوظات النصية التي تدورلدبغ. فلقد حدث الانقلاب في الإرسال مباشرة قبل ولوج علي هذه الدار، فلقد كبر بالقياس إلى مرحلة الطحانة، وإن لم يذكر النص ذلك بدارالدبغ. فلقد حدث الانقلاب في الإرسال مباشرة الدار، فلقد كبر بالقياس إلى مرحلة الطحانة، وإن لم ي\كر النص ذلك بصفة صريحة.
33. المعلم علي، ص. 6. 1.
34. المعلم علي، ص. 4. 1.
35. المعلم علي، ص. 96.
36. المعلم علي، ص. 8. 1-9. 1.
7). المعلم علي، ص. 128.
37.م. نشير في هذا الصدد، على سبيل التدكير فحسب، بأن مقولة: الممثل (المعلم)، موحدة في برنامج الطحانة.
38. المعلم علي، ص. 132.
39. المعلم علي، ص. ا 14.
40. المعلم علي، ص. 0 14،
41. المعلم علي، ص. 111.
42. المعلم علي، ص. 112.
42م. المعلم علي، ص. 171.
43. المعلم علي، ص. 171.
44. استعرنا مفهومي: الوعي الممكن والوعي القائم، من ´´غولدمان´´، لتوصيف تعارض الوعي في روايتنا، محترسين من ألا يؤدي ذلك إلى توليف المفاهيم المختلفة بين المنهج الذي نحاول التعريف به واستخدامه في هذه الدراسة، وبين تصورات غولدمان ومنهجه. يراجع:
Goldman. Lucien, Marxisme et sciences humaines, éd, Gallimard, 1975, p. 85.
45. المعلم علي، ص.198.
46. المعلم علي، ص. 172.
47. المعلم علي، ص. 178.
48. المعلم علي، ص. 181.
49. المعلم علي، ص. 217-221.
.5. المعلم علي، ص. 64.
51. المعلم علي، ص. 64.
52. المعلم علي، ص. 224.
52م. المعلم علي، ص. 234.
53. المعلم علي، ص. 199.
54. المعلم علي، ص. 239-246.
55. Germas. Algirdas. Julien, - Courtes. Joseph.